فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة المأمورات والمنهيات على سبيل الإجمال، ذكر هذه الآية بعض ذلك الإجمال على التفصيل فبدأ بالأمر بالوفاء بالعهد، لأنه آكد الحقوق فقال تعالى: {وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم} نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأمرهم بالوفاء بهذه البيعة، وقيل: المراد منه كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد أيضًا لأن الوعد من العهد، وقيل: العهد هاهنا اليمين.
قال القتيبي: العهد يمين وكفارته كفارة يمين فعلى هذا يجب الوفاء إذا كان فيه صلاح أما إذا لم يكن فيه صلاح، فلا يجب الوفاء به لقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف يمينًا ثم رأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه» فيكون قوله وأفوا بعهد الله من العام الذي خصصته السنة.
وقال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية، ويشهد لهذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: «كل حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة» {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} يعني تشديدها فتحنثوا فيها وفيه دليل على أن المراد بالعهد غير اليمين لأنه أعم منها {وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا} يعني شهيدًا بالوفاء بالعده {إن الله يعلم ما تفعلون} يعني من وفاء العهد ونقضه ثم ضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا لنقض العهد فقال تعالى: {ولا تكونوا} يعني في نقض العهد {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة} يعني من بعد إبرامه وإحكامه.
قال الكلبي ومقاتل: هذه امرأة من قريش يقال لها ربطة بن عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم وكانت خرقاء حمقاء بها وسوسة، وكانت قد اتخذت مغزلًا قدر ذراع وصنارة مثل الإصبع وفلكه عظيمة على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف، أو الشعر أو الوبر وتأمر جواريها بالغزل فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن، فكان هذا دأبها.
والمعنى: أن هذه المرأة، لم تكف عن العمل ولا حين عملت كفت عن النقض فكذلك من نقض العهد لا تركه ولا حين عاهد وفى به {أنكاثًا} جمع نكث وهو ما ينقض من الغزل أو الحبل بعد القتل {تتخذون أيمانكم دخلًا بينكم} يعني دغلًا وخيانة وخديعة والدخل ما يدخل في الشيء على سبيل الفساد، وقيل: الدخل والدغل أن يظهر الرجال الوفاء بالعهد ويبطن نقضه {أن تكون} يعني لأن تكون {أمة هي أربى من أمة} يعني أكثر وأعلى من أمة.
قال مجاهد: وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا قومًا أكثر من أولئك وأعز نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا الأكثر.
والمعنى: أنكم طلبتم العز بنقض العهد لأن كانت أمة أي جماعة أكثر من جماعة فنهاهم الله عن ذلك، وأمرهم بالوفاء بالعهد لمن عاهدوا وحالفوا، {إنما يبلوكم الله به} يعني يختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهد وهو أعلم بكم {وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} يعني في الدنيا فيثيب الطائع المحق، ويعاقب المسيء الخالف. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}.
النقض ضد الإبرام، وفي الجرم فك أجزائه بعضها من بعض.
التوكيد: التثبيت ويقال: توكيد، وتأكيد، وهما لغتان.
وزعم الزجاج أنّ الهمزة بدل من الواو، ولبس بجيد.
لأن التصريف جاء في التركيبين فدل على أنهما أصلان.
الغزل: معروف، وفعله غزل يغزل بكسر الزاي غزلًا، وأطلق المصدر على المغزول.
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا تتخذون أيمانكم دخلًا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} عن ابن عباس في حديث فيه طول منه: أن عثمان بن مظعون كان جليس النبي صلى الله عليه وسلم وقتًا فقال له: عثمان ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة؟ قال: «وما رأيتني فعلت؟» قال: شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفت عني إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئًا يقال لك قال: أو فطنت لذلك؟ أتاني رسول الله آنفًا وأنت جالس قال: فماذا قال لك: قال لي: {إن الله يأمر بالعدل} الآية.
قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، فأحببت محمدًا صلى الله عليه وسلم لما ذكر الله تعالى.
ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء، وصل به ما يقتضي التكاليف فرضًا ونفلًا وأخلاقًا وآدابًا.
والعدل فعل كل مفروض من عقائد، وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحق والإحسان فعل كل مندوب إليه قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: العدل هو الواجب، لأن الله عز وجل عدل فيه على عباده، فجعل ما فرضه عليهم واقعًا تحت طاقتهم.
والإحسان الندب، وإنما علق أمره بهم جميعًا، لأنّ الفرض لابد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب انتهى.
وفي قوله: تحت طاقتهم، نزغة الاعتزال.
وعن ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض.
وعنه أيضًا أنّ العدل هو الحق.
وعن سفيان بن عيينة: أنه أسوأ السريرة والعلانية في العمل.
وذكر الماوردي أنه القضاء بالحق قال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} وقال أبو سليمان: العدل في لسان العرب الانصاف.
وقيل: خلع الأنداد.
وقيل: العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال.
وإيتاء ذي القربى: هو صلة الرحم، وهو مندرج تحت الإحسان، لكنه نبه عليه اهتمامًا به وحضًا على الإحسان إليه.
والفحشاء: الزنا، أو ما شنعته ظاهرة من المعاصي.
وفاعلها أبدًا مستتر بها، أو القبيح من فعل أو قول، أو البخل، أو موجب الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة، أو مجاوزة حدود الله أقوال، أولها لابن عباس.
والمنكر: الشرك عن مقاتل، أو ما وعد عليه بالنار عن ابن السائب، أو مخالفة السريرة للعلانية عن ابن عيينة، أو ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن العذاب في الآخرة.
أو ما تنكره العقول أقوال، ويظهر أنه أعم من الفحشاء لاشتماله على المعاصي والرذائل والبغي: التطاول بالظلم والسعاية فيه، وهو داخل في المنكر، ونبه عليه اهتمامًا باجتنابه.
وجمع في المأمور به والمنهي عنه بين ما يجب ويندب، وما يحرم ويكره، لاشتراك ذلك في قدر مشترك وهو الطلب في الأمر، والترك في النهي.
وقال أبو عبد الله الرازي: أمر بثلاثة، ونهى عن ثلاثة.
فالعدل التوسط بين الإفراط والتفريط، وذلك في العقائد وأعمال الرعاة.
فقال ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، وهو إثبات الإله الواحد، فليس تعطيلًا محضًا ولا إثبات أكثر من إله.
وإثبات كونه عالمًا قادرًا واجب الصفات فليس نفيًا للصفات، ولا إثبات صفة حادثة متغيرة.
وكون فعل العبد بواسطة قدرته تعالى، والداعية التي جعلها فيه فليس جبرًا محضًا، ولا استقلالًا بالفعل.
وكونه تعالى يخرج من النار من دخلها من أهل التوحيد، فليس إرجاء ولا تخليدًا بالمعصية.
وأما أعمال الرعاة فالتكاليف اللازمة لهم، فليس قولًا بأنه لا تكليف، ولا قولًا بتعذيب النفس واجتناب ما يميل الطبع إليه من: أكل الطيب، والتزوج، ورمي نفسه من شاهق، والقصاص، أو الدية، أو العفو، فليس تشديدًا في تعيين القصاص كشريعة موسى عليه السلام، ولا عفوًا حتمًا كشريعة عيسى عليه السلام، وتجنب الحائض في اجتناب وطئها فقط فليس اجتنابًا مطلقًا كشريعة موسى عليه السلام، ولا حل وطئها حالة الحيض كشريعة عيسى عليه السلام، والاختتان فليس إبقاء للقلفة ولا قطعًا للآلة كما ذهب إليه المانوية.
وقال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} {والذين إذا أنفقوا} ولا تجعل الآيتين.
ومن المشهور قولهم بالعدل: قامت السموات والأرض، ومعناه: إن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة، وكان بعضها أزيد، لغلب الازدياد وانقلبت الطبائع.
فالشمس لو قربت من العالم لعظمت السخونة واحترق ما فيه، ولو زاد بعدها لاستوى الحر والبرد.
وكذا مقادير حركات الكواكب، ومراتب سرعتها، وبطئها.
والإحسان: الزيادة على الواجب من الطاعات بحسب الكمية والكيفية، والدواعي، والصوارف، والاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية.
ومن الإحسان الشفقة على الخلق، وأصلها صلة الرحم، والمنهي عنه ثلاثة.
وذلك أنه أودع في النفس البشرية قوى أربعة: الشهوانية وهي تحصيل اللذات، والغضبية وهي: إيصال الشر، ووهمية: وهي شيطانية تسعى في الترفع والتراوس على الناس.
فالفحشاء ما نشأ عن القوّة الشهوانية الخارجة عن أدب الشريعة، والمنكر ما نشأ عن الغضبية، والبغي ما نشأ عن الوهمية انتهى ما تخلص من كلامه عفا الله عنه.
ولما أمر تعالى بتلك الثلاث، ونهى عن تلك الثلاث قال: يعظكم به، أي بما ذكر تعالى من أمر ونهي، والمعنى: ينبهكم أحسن تنبيه لعلكم تذكرون أي: تتنبهون لما أمرتم به ونهيتم عنه، وعقد الله علم لما عقده الإنسان والتزمه مما يوافق الشريعة.
وقال الزمخشري: هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} وكأنه لحظ ما قيل أنها نزلت في الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، رواه عن بريدة.
وقال قتادة ومجاهد: فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
وقال ميمون بن مهران: الوفاء لمن عاهدته مسلمًا كان أو كافرًا، فإنما العهد لله.
وقال الأصم: الجهاد وما فرض في الأموال من حق.
وقيل: اليمين بالله، ولا تنقضوا العهود الموثقة بالإيمان، نهى عن نقضها تهممًا بها بعد توكيدها أي: توثيقها باسم الله وكفالة الله وشهادته، ومراقبته، لأن الكفيل مراع لحال المكفول به.
ولا تكونوا أي: في نقض العهد بعد توكيده بالله كالمرأة الورهاء تبرم فتل غزلها ثم تنقضه نكثًا، وهو ما يحل فتله.
والتشبيه لا يقتضي تعيين المشبه به.
وقال السدي، وعبد الله بن كثير: هي امرأة حمقاء كانت بمكة.
وعن الكلبي ومقاتل: هي من قريش خرقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تيم، تلقب بجفراء، اتخذت مغزلًا قدر ذراع، وصنارة مثل أصبع، وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن.
وعن مجاهد: هذا فعل نساء أهل نجد، تنقض إحداهن غزلها ثم تنفشه، وتخلطه بالصوف فتغزله.
وقال ابن الأنباري: ريطة بنت عمرو المرية، ولقبها الجفراء من أهل مكة، وكانت معروفة عند المخاطبين.
والظاهر أنّ المراد بقوله: {من بعد قوّة} أي: شدة حدثت من تركيب قوى الغزل.
ولو قدرناها واحدة القوى لم تكن تنتقض أنكاثًا.
والنكث في اللغة الحبل إذا انتقضت قواه.
وقال مجاهد: المعنى من بعد إمرار قوة.
والدخل: الفساد والدغل، جعلوا الإيمان ذريعة إلى الخدع والغدر، وذلك أن المحلوف له مطمئن، فيمكن الحالف ضره بما يريده.
قالوا: نزلت في العرب كانوا إذا حالفوا قبيلة فجاء أكثر منها عددًا حالفوه وغدروا بالتي كانت أقل.
وقيل: أن تكونوا أنتم أزيد خبرًا، فأسند إلى أمة، والمراد المخاطبون.
وقال ابن بحر: الدخل والداخل في الشيء لم تكن منه، ودخلًا مفعول ثان.
وقيل: مفعول من أجله، وأن تكون أي: بسبب أن تكون وهي أربى مبتدأ وخبر.
وأجاز الكوفيون أن تكون هي عمادًا يعنون فضلًا، فيكون أربى في موضع نصب، ولا يجوز ذلك عند البصريين لتنكير أمة.
والضمير في به عائد على المصدر المنسبك من أن تكون أي: بسبب كون أمة أربى من أمة يختبركم بذلك.
قال الزمخشري: لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة للرسول صلى الله عليه وسلم، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم وليبينن لكم: إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام انتهى.
وقيل: يعود على الوفاء بالعهد.
وقال ابن جبير، وابن السائب، ومقاتل: يعود على الكثرة.
قال ابن الأنباري: لما كان تأنيثها غير حقيقي حمل على معنى التذكير، كما حملت الصيحة على الصياح. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِنَّ الله يَأْمُرُ} أي فيما نزّله تبيانًا لكل شيء وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجددِ والاستمرار {بالعدل} بمراعاة التوسطِ بين طرفي الإفراطِ والتفريطِ وهو رأسُ الفضائل كلِّها يندرج تحته فضيلةُ القوةِ العقلية الملكية من الحِكمة المتوسطةِ بين الحُرية والبَلادة، وفضيلةُ القوةِ الشهوية البهيمية من العِفة المتوسّطة بين الخلاعة والخمود، وفضيلةُ القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهوُّرِ والجُبن، فمن الحِكم الاعتقادية التوحيدُ المتوسطُ بين التعطيل والتشريك. نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن العدلَ هو التوحيدُ والقولُ بالكسب المتوسّطِ بين الجبر والقدَر، ومن الحِكم العملية التعبدُ بأداء الواجبات المتوسطِ بين البَطالة والترهب، ومن الحِكم الخلُقية الجودُ المتوسط بين البخل والتبذير {والإحسان} أي الإتيانِ بما أمر به على الوجه اللائقِ وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفيةِ كما يشير إليه قولُه صلى الله عليه وسلم: «الإحسانُ أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» {وَإِيتَاء ذِى القربى} أي إعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه، وهو تخصيصٌ إثرَ تعميمٍ اهتمامًا بشأنه {وينهى عَنِ الفحشاء} الإفراط في مشايعة القوةِ الشهوية كالزنى مثلًا {والمنكر} ما يُنكَر شرعًا أو عقلًا من الإفراط في إظهار آثار القوةِ الغضبية {والبغى} الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبرُ عليهم وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانيةِ التي هي حاصلةٌ من رذيلتَيْ القوتين المذكورتين الشهويةِ والغضبية، وليس في البشر شرٌّ إلا وهو مندرجٌ في هذه الأقسام صادرٌ عنه بواسطة هذه القُوى الثلاث، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: هي أجمعُ آيةٍ في القرآن للخير والشر ولو لم يكن فيه غيرُ هذه الآية الكريمة لكفَتْ في كونه تبيانًا لكل شيءٍ {وهدى ورحمة} {يَعِظُكُمُ} بما يأمر وينهى، وهو إما استئنافٌ وإما حالٌ من الضميرين في الفعلين {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} طلبًا لأن تتعظوا بذلك.
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله} هو البَيعةُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها مبايعةٌ لله سبحانه لقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} {إِذَا عاهدتم} أي حافظوا على حدود ما عاهدتم الله عليه وبايعتم به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان} التي تحلِفون بها عند المعاهدة {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} حسبما هو المعهودُ في أثناء العهودِ لا على أن يكون النهيُ مقيدًا بالتوكيد مختصًا به {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} شاهدًا رقيبًا، فإن الكفيلَ مُراعٍ لحال المكفول به محافظٌ عليه {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من نقض الأيمان والعهودِ فيجازيكم على ذلك.
{وَلاَ تَكُونُواْ} فيما تصنعون من النقض {كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا} أي ما غزلتْه، مصدرٌ بمعنى المفعول {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بنقضت أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامِه {أنكاثا} طاقاتٍ نكثتْ فتلَها جمع نِكْث، وانتصابه على الحالية من غزْلَها أو على أنه مفعولٌ ثانٍ لنقضت فإنه بمعنى صيّرت، والمرادُ تقبيحُ حالِ النقض بتشبيه الناقض بمثل هذه الخرقاء المعتوهةِ. قيل: هي {رَيْطةُ بنتُ سعد بن تيم} وكانت خرقاء اتخذت مِغزلًا قدرَ ذراعٍ وصَنّارةً مثلَ أصبع وفلكةً عظيمةً على قدرها فكانت تغزِل هي وجواربها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقُضْن ما غزَلْن {تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلًا بَيْنَكُمْ} حالٌ من الضمير في لا تكونوا أو في الجار والمجرور الواقعِ موقعَ الخبر أي مشابهين لامرأة شأنُها هذا حالَ كونِكم متَّخذين أيمانَكم مفسدةً ودخَلًا بينكم، وأصلُ الدخَل ما يدخُل الشيء ولم يكن منه {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ} أي بأن تكون جماعة {هِىَ أَرْبَى} أي أزيد عددًا وأوفر مالًا {مِنْ أُمَّةٍ} من جماعة أخرى أي لا تغدُروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أو لكثرة مُنابذيهم وقوتهم كقريش، فإنهم كانوا إذا رأوا شوكةً في أعادي حلفائِهم نقضوا عهدَهم وحالفوا أعداءهم {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} أي بأن تكون أمةٌ أربى من أمة، أي يعاملكم بذلك معاملةَ من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبَيعةِ رسولِه عليه السلام أم تغترّون بكثرة قريشٍ وشوكتِهم وقلةِ المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال {وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} حين جازاكم بأعمالكم ثوابًا وعقابًا. اهـ.